تبنى حياة الانسان على خوض التجارب ومواجهة التحديات منذ الولادة وحتى الوفاة، تحديات وتجارب يومية، بعضها بسيط يمكن اتمامه بخطوات يسيرة، وبعضها الآخر أكثر تعقيدًا ويتطلب المزيد من الجهد والمحاولة والتكرار والخطأ، وتحليل دقيق وتفصيلي في كل خطوة. وفي كل مرة ينسى فيها الانسان قدراته المحدودة، ويظن أنه بعقليته ومعرفته واجتهاده، سيتمكن من تحقيق أمنياته وأهدافه، فلا يكون ذلك، لأن الحياة لا تسير بهذه الطريقة، وذلك لحكمة إلهيه، وقدر يقدره الله سبحانه لخلقه.
يختلف البشر بقدراتهم وسلوكهم وتفاعلهم مع مجريات الحياة. فهناك المبادر، وهناك المتريث، والمغامر، والمتردد، وكذلك المستسلم وغير ذلك. وسوف أركز في هذا المقال على الاستسلام، وكيفية تعويد النفس على القبول به في مواقف يتحتم على الانسان فيها ذلك الفعل. رفع الراية البيضاء، شعار دلالته تكمن في التوقف عن المقاومة، والاعتراف بالهزيمة.
في المواجهات العادية، لا بد من توفر التحدي وقوة التحمل، على المستوى الجسدي أو الفكري أو النفسي. ولكن في المواجهات العصيبة، والمرهقة للجسد والعقل والنفس، يجب أن نذعن ونرفع الراية، فالخسائر في هذه الحالة ستكون جسيمة، والاستمرار في المقاومة تدمير شامل، لكل مقومات الإنسان السوي، والعناد غير مجدي، لأن ذلك لن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، فلا مجال إلا للتوقف وإيقاف النزيف، لأن الأمر ليس في يد الانسان، أو تحت تحكمه وتصرفه. وأن الاستسلام، هو قدر حتمي، أراده الله جل في علاه، لإخضاع الانسان الجاهل العنيد، وتذكيره بأنه مخلوق للعبادة، ثم للسعي في هذه الأرض وإعمارها إلى حين. وهو بحاجة إلى التذلل والالتجاء إليه سبحانه وتعالى.
وبمجرد أن يرفع الانسان الراية البيضاء، سيعلم أنه كان من الأفضل أن يفعل ذلك منذ التحدي الأول، وأن استسلامه هو خير له، حتى يعيد التأمل، ومراجعة الذات في تصرفاته، والتعلم من هذه الخبرة. أن يتجنب العناد في حاضره، وفي المرحلة التي هو مقبل عليها. وأن الخير والنجاح، كان بين يديه منذ البداية، ولكن أصابه ربما شيء من الاعتزاز بذاته أو الكبر.
الاستسلام ليس ضعفاً، وليس هزيمة أو انكسارًا، ولا يدل على وجود قصور في القدرات، أو نقص في المهارات. ويجب ألا يؤدي إلى الحزن أو الاكتئاب، ولا أن يسبب يئسا ولا تقاعساً عن الاجتهاد واستمرار السعي والمحاولة. بل على العكس، المفترض أن يجعل الانسان يتطور ويعدل في مساره وأدواته، حتى يزداد تحمله لظروف أقسى، وحالات أصعب، ويكون عنده المرونة الكافية، والكفاءة العالية، للارتقاء بعد التوكل على الله.
