كيف نجوت من الآلة المزعومة
قاتلي مستمر في القتل فاحذروه
لم أكن أعلم أنه قاتل محترف حتى رأيته مرة
أسرف في القتل حتى ظننت أنه سيقضي على البشرية
***
يقول مللت الحياة ومللت من كل شيء ولم أعد انتظر شيئاً غير الموت الذي ينتشلني من الغرق في بحر من ظلمات العزلة لا رفيق وفي ولا صاحب سخي يتكرم علي بقطر الكلمات المبشرة بالفرح لتعيد طلاء الزاوية الرمادية التي امكث فيها مؤخراً, جروح الزمان انتشرت على جسدي المليء بالأحزان صعوبة في العيش وحالة يرثى لها تحت خط الدماء المسموعة الهدير.
والرمال تراكمت على أطراف معقلي ومسقط رأسي فلم أعد قادراً على إزالتها لأفتح الباب الموصد بقفل أكل عليه الدهر وشرب , في ساعة متأخرة من الليل البهيم ومض شعاع عبر النافذة الخشبية التي كانت من قبل تصرخ مع كل هبة للريح , وميض مختلف هذه المرة رافق معه رياح محملة بالنسمات الباردة ورشّات المطر هذا الآخر ما إن رآني حتى ثار وانهمر بقوة شديدة وكأنه بكى حزناً على حالتي الميئوس منها فاجتث معه الباب المغلق والنوافذ المتهالكة ورماها بعيداً ليغسل الدرن المتراكم في كل أرجاء المسكن وغمرني بمائه النقي فلم يبقي مني شيئاً يتلون بالألوان الكئيبة تبللت كل خزانتي بالماء فلم يعد شيئاً من الأوراق يحمل أي من الحبر المنسكب بالذكريات المأساوية وما باعدت عن كل ذلك إلا وأنا أخر كالمغشي عليه لأنعم بسبات عميق قد حرمت منه طيلة حياتي الماضية .
استيقظت بعد فترة ليست بالقصيرة على صوت طيور لم أعتد على سماعها بعد أن ملأ الزمن سمعي بالصمم من كل الأصوات عدا صوت الأنين ونغمات الحزن والبؤس والشقاء الذي كان يرافق صوت الريح العاتية، خرجت من هذا المكان عبر الباب المخلوع واتجهت للأشعة الصفراء المنبعثة من السماء الصافية وجذبني عطر أخّاذ كان يفوح من زهور برية، قد حرمت من سيل كهذا الذي زارنا صدفة ورائحة الثرى الذي مازال مبتهجاً أيضاً ينشر شذاه الآسر وكأنه لم يصدق بما جرى البارحة. مددت خطواتي وسارعت بالهرب من المكان الموحش وعيني بدأت تفيض دموعاً أشبه بدموع الفرح، وأنا أرى ذلك البريق أمامي الذي يملأ السماء سعادة وصخبا؛ كان الأمل يقودني ويدفعني للإسراع أكثر وأكثر ويقول أن لا شقاء بعد اليوم وما زلت على عزمي هذا حتى أبى الزمان إلا أن يلاقيني بموقف لا أدري هل هو نذير خير أم شر.
قابلت رجلاً ذات مرة في أحد المقاهي الصباحية التي كنت معتاداً على شرب قهوتي فيها حقيقة شدّني الرجل الذي كان رساماً مثلي فلما علم بأني رسام دعاني لزيارة محله الصغير في طرف ذلك الممر داخل السوق الشعبي وبدون تردد قبلت الدعوة سرنا معاً فلما أن دخلت المعرض، وجدته متحفاً مصغراً، كانت كل لوحاته توحي بذوقه الراقي في رسم جمال الحياة وجمال الطبيعة وتجاهل السلبيات التي دائماً ما تحبطنا وتكسو عالمنا بالسواد.
كانت فتاة تأتي مرة كل أسبوع لترى إن كان هناك لوحة جديدة فتمكث عندها فترة طويلة تتأمل وتغرق في التأمل ثم تذهب للرجل الكبير السن وتشكره على جهده ثم تغادر دون أن تقوم بالشراء، صادفت وجودها أثناء زيارتي تلك فأخبرني بحالها. عرض الرجل علي مشاركته في المعرض فشاركته قرابة السنتين حتى أتقنت أسلوبه الفريد الذي زادني مهارة فنية إضافية في الرسم، تكرم الرجل علي بأن ساعدني في أحلك ظروفي وسامرني في أقسى الليالي التي كنت فيها اشعر بالغربة، كانت الفتاة تمر كل صباح وتقدم لي كوب من القهوة فنحتسيه معاً حتى عرفت كل شيء عنها، كانت تدرس في الجامعة متخصصة في علم المنطق تمتلك مهارة رائعة في التذوق للرسومات والألوان، وأيضاً كاتبة بديعة تحاكي بكتاباتها أقوال فلاسفة التاريخ وشتى العلوم الأخرى، اعتادت هي على الزيارة وأنا أيضاً صرت أنتظر قدومها فهي موسوعة في العلم والأخلاق. كانت تحدثني عن الكثير من الأمور وكانت متجددة ومتنوعة في الطرح حتى جاء ذلك اليوم المشئوم المشئوم؛ وقالت لقد عرفت عنك الكثير وأنا أكن لك الكثير من المشاعر والأحاسيس التي لم تمر علي من قبل، فقلت نعم وأنا كذلك، إنها مشاعر الأصدقاء الذين اعتادوا على دوام التواصل واللقاء، فابتسمت وقالت ليس ذلك، بل شيء آخر يقال له الحب، فصرخت بصوت عال، لا لا؛ هذا هو قاتلي في كل الأزمان، أرجوكِ قولي أنها مزحة، فابتسمت وقالت بل نعم هو ذاك الحب.
كان إصرارها بتكرار تلك الكلمات حتى أني كنت أشبّه نطقها بالحب، بالرصاصة التي تخرج مسرعة من مخزن السلاح لتضرب قلبي مباشرةً فتقتل الإحساس فيني في كل مرة، وكانت الفتاة تصرخ وتصرخ وتقول في كل لقاء أني أحبك بلا خجل، أني أحبك فلا مهرب من حبي، وما زالت تعيد وتكرر حتى وقعت مصدوماً مرعوباً في غيبوبة طويلة الأمد، فهذا الحب لا أراه سوى قاتل أسرف في قتل البشر منذ العصر الأول في زمن ابني آدم. كانت الكوابيس تتوالى علي في غيبوبتي وكان شبح الحب يمرني كل لحظة فأبكي دماً ودمعاً وألماً يشق صدري مع كل شهقة نفس، وقد عاد بي إلى سابق عهدي في مسكني ذاك الذي عشت فيه أمداً طويلاً بسبب هذا القاتل المحترف والآلة المزعومة التي نجوت منها صدفة فيما مضى لي من أيام.
تقول الفتاة هذا المسكين يفيق كل ليلة ويهذي بهذه الكلمات، “قاتلي مستمر في القتل فاحذروه” ويعيد حتى يعود في غيبوبته مرة أخرى.